مجتمع

20 انحناءة في اليوم: كيف تطفئ التفاصيل الصغيرة قلوب الأمهات؟

حتى لا تحترق الأمهات في صمت، وتنطفئ الكثير من البيوت: قراءة في مفاهيم مشوَّهة، ومشاركة مفقودة، ومسؤولية مُهمَلة.

future صورة تعبيرية معدلة بالـAi (20 انحناءة في اليوم: كيف تطفئ التفاصيل الصغيرة قلوب الأمهات؟)

تستيقظ زينب كل صباح لتتحسس فقرات ظهرها، تشدّها برفق، تسترضيها، تأمل أن تصمد حتى المساء، حيث المهام لا تُحصى، والمشاوير لا تنتهي. حتى بضعة سنوات مضت كانت فقراتها العزيزة تستجيب بلا تذمر، رغم إسرافها في إرهاقها.

أما الآن وبعد إصابات عديدة في ملاعب الحياة، صارت الفقرات المتيبسة تنذرها حين تفتح عينيها: «رصيدك اليوم لا يتجاوز عشرين انحناءة، فانفقيها بحكمة... وإلا!». تنظر زينب حولها لتصطدم عيناها ببضعة أزواج من الأحذية ملقاة بإهمال. تعلم أن عودتها لمكانها حتمًا ستقضي على أربع انحناءات من رصيدها المحدود.

يضاف إليهم أربعة آخرون لجمع تلك الجوارب المتناثرة. أما سلة الغسيل، فمشروع استنزاف كامل: تُفرغ، تُغسل، تُنشر، تُطوى... كل خطوة تستهلك من رصيدها ما تعجز عن إحصائه. تلك حسبة عويصة تعيشها زينب كل يوم: رصيد متناقص من القدرة، وقوائم متزايدة من الواجبات... ثم يسألها الجميع: «لماذا هذا الوجه الغاضب العبوس؟»

بيوت الحبيب

لا أعلم كيف سترى قصة زينب: هل ستتعاطف معها، أم تلومها؟ لكن قبل أن تقرر موقفك، دعنا نغادر بيتها المزدحم، وننتقل إلى بيوت رائقة هادئة، تكاد تخلو من الأثاث، لا تتجاوز مساحتها القليل من الأمتار. يمضي على أهلها الشهر تلو الآخر دون أن توقد فيها نار. فقط أبسط الوجبات، وأقلها تكلفة وجهدًا.

كان هذا هو حال بيوت المصطفى صلى الله عليه وسلم: بيوت لا تعرف تعقيدات الأطباق المتراكمة في الحوض، ولا أكوام الغسيل التي لا تجد من يغسلها وينشرها ويرصّها، ولا قوائم تسوق أسبوعية وشهرية، ولا متابعة دروس وتمارين وواجبات، متاع قليل حيث لا يلهث الناس داخل البيوت وخارجها.

ومع ذلك، كان رجل بحجم مسؤوليات النبي صلى الله عليه وسلم يمدّ يده للمساعدة: يخسف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته. كانت هذه هي يد العون والرحمة التي تُنبت ودًا غير متكلف، وتشعر ربة البيت بالأنس والمشاركة.
فلماذا لا تحظى زينب — وكلنا زينب — ببيتٍ يُحيي سنة الحبيب في الرأفة والمشاركة ومدّ يد العون؟!

احتراق غير مرئي

كثير من الأسر العربية تتعامل مع مهام العناية بالبيت والعائلة باعتبارها شأنًا نسائيًا بحتًا، ويعد التعاون فيها توجهًا غربيًا ينتقص من رجولة متبعيه، مع أنَّنا لو فعلنا شعار «ولنا في رسول الله أسوة حسنة» لكنا أولى به من غيرنا.

في دراسة أُجريت في مركز البحوث والدراسات الاقتصادية بجامعة القاهرة، تبين أن النساء يتحملن 80% من إجمالي العمل المنزلي مقارنة بالرجال، وقبل أن تقرر أن هذا وضع طبيعي، أحيطك علمًا بأن الدراسة وسعت مفهوم العمل المنزلي ليشمل أربعة مجالات:

أولًا: الأعمال المنزلية المباشرة من تنظيف وغسيل وطبخ وترتيب الأثاث وأعمال الصيانة الخفيفة.

ثانيًا: الرعاية، سواء كانت لكبار السن أو المرضى داخل الأسرة أو للأطفال الذين يحتاجون لإطعام أو تحميم أو مذاكرة أو توصيل للمدرسة والتمارين.

ثالثًا: تسوق الطعام والملابس واحتياجات الأسرة اليومية.

رابعًا: إدارة المنزل بما تستلزمه من تخطيط للوجبات وإدارة الميزانية وتنظيم مواعيد الأفراد.

المتأمل لهذه التفاصيل المرهقة يدرك أن العمل المنزلي هنا لا يعني فقط تنظيف البيت كما قد يتبادر إلى الذهن، بل يقصد به مجمل الأنشطة اليومية التي تحافظ على سير الحياة داخل الأسرة.

ولم تختلف نتائج الدراسات الراصدة لهذه الظاهرة باختلاف دول العالم، ففي دراسة منظمة العمل الدولية عن الرعاية والعمل غير مدفوع الأجر، تبين أن النساء في كل مكان يقمن بالجانب الأكبر منه.

نعود إلى زينب... من زاوية علم النفس، ما تعانيه زينب ليس مجرد تعب جسدي، بل هو انعكاس لما يُعرف في علم النفس بالاحتراق النفسي (Burnout)، وهو حالة من الإنهاك العاطفي والجسدي والعقلي نتيجة ضغوط متراكمة دون دعم كافٍ أو توزيع عادل للمسؤوليات.

وبالنسبة لكثير من الأمهات والزوجات، يتقاطع (الاحتراق) مع مفهوم العمل غير المرئي، الذي يشير إلى تلك النوعية من المهام التي لا تُحتسب ضمن ساعات العمل الرسمية، ولا تقابل بمكافأة أو تقدير مباشر.

بل إنها حتى قد لا تُلاحَظ أو تؤخذ في الحسبان على الرغم من كونها تتطلب جهدًا ذهنيًا وعاطفيًا كبيرًا. ويندرج تحت هذا المسمى كل ما هو متعلق بمتابعة تفاصيل الحياة اليومية للعائلة في المجالات الأربعة السابقة الذكر.

فالعناية بكل هذه التفاصيل الصغيرة تستنزف الموارد العقلية مثل الانتباه والذاكرة قصيرة المدى، دون أي فترات تعافٍ حقيقية.
فقط استفسارات متكررة عن: لماذا صارت الزوجات والأمهات منهكات قليلات الصبر؟!

احتساب يكمله إنصاف

ليست هذه دعوة للتمرد على رعاية النساء لأسرهن بكل حب وتفانٍ ودون انتظار لمقابل مادي ملموس، فشريعتنا تقدر قيمة الدور الأنثوي في هذا الجانب وتدعو كل زوجة وأم لاحتساب أجرها عند الله.

لكن الإنصاف يستدعي إذا أشرنا على السيدة بالاستعانة باحتساب الأجر عند الله أن نشير على الزوج العزيز بأن يقتدي بالنبي في الرحمة والمشاركة والتخفيف عن ربة بيته.
ولا يحتاج الأمر إلى دراسات عديدة لنؤكد أن كل مهمة صغيرة يقوم بها الزوج أو أحد الأبناء، ولو كانت بحجم وضع جورب شارد في سلة الغسيل، ستدخر للسيدة المنزل ولو انحناءة واحدة في رصيدها المحدود.

مشاركة الزوج والأبناء في الأعباء المنزلية لا تمنح زينب — وكل زينب — فقط متنفسًا للراحة، بل تخلق أيضًا حيزًا من المرح تطلق فيه العنان للطفلة بداخلها، وتستعيد شيئًا من ذاتها بعيدًا عن دوامة الواجبات.
كما تعلم الأبناء الكثير عن متطلبات الحياة، وتُهيئهم لما سيمارسونه يومًا ما من أدوار كآباء وأمهات.

الأعمال المنزلية يمكن أن تتحول إلى أداة تربوية فعّالة، يستعين بها الأبوان لغرس روح المسؤولية والالتزام لدى الأبناء، بدلًا من الصورة المعتادة: أم تدور كالنحلة بين المهام، وأبناء مستغرقون أمام شاشاتهم، منفصلون عن الحياة التي تدور حولهم.

هذا المفهوم الأصيل، الذي هو من صميم ديننا، يؤلف فيه الغرب كتبًا، ويقيم له الدورات، ليعلم الآباء كيف يتشاركون، وكيف يشركون أبناءهم في المهام العائلية: من تسوق وتنظيف وترتيب وصيانة، وغيرها.

اقتناص أوقات قصيرة لدرء مشاكل كبيرة

إن الوقت النوعي، وهو الوقت القائم على الحضور الحقيقي والتواصل بمحبة واهتمام، لا يشترط أن يستغرق ساعات طوالًا، بل يمكن أن يقتنصه الأب المشغول كلما سنحت له الفرصة.

وها هو النبي يعلمنا كيف يقتنص الوالد المربي فرصة اجتماعه وولده في أي مشوار، كما فعل صلى الله عليه وسلم حين ركب ابن عباس خلفه على الراحلة، فبادره قائلًا: «يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك...» إلى آخر الحديث الطويل الذي تعلمه ابن عباس وهو فتى لم يتجاوز العاشرة. لحظات قصيرة، لكنها عميقة الأثر، صاغت رجالًا وأبطالًا.

في دورات التربية تضج الأمهات من أبناء صاروا شبابًا ولا يواظبون على الصلاة. ولو سُئلت: كم مرة اصطحبهم الوالد لصلاة بالمسجد؟ كم مرة تجاذبوا أطراف الحديث حول خطبة الجمعة؟ كم مرة دفع أحدهم ليؤم أهل البيت بدعوى أنه تلاوته للقرآن؟ كم مرة اصطحبهم للسوق أو التمرين؟

هذه لحظات يقتنصها ويدبرها من يعِ أهميتها، ويسقطها سهوًا أو سآمةً الكثيرون، رغم أنها من تمام الرجولة وأركان القوامة.
ودعنا نكمل الصورة الناقصة بمشهد آخر يوضع جنبًا إلى جنب مع مشهد النبي مع ابن عباس.
فالرجل الذي يحمل آخر رسالات الله إلى الأرض، والموكل بنشر الدين ومحاربة الكفر، والذي بادر بخياطة ثوبه، وخسف نعله، وحلب شاته، يستقطع وقتًا يسابق فيه زوجته، فيسبقها مرة وتسبقه مرة.

فكما يحتاج الأبناء إلى هذا الوقت النوعي من آبائهم، تحتاج الزوجات بدورهن إلى سويعات ترويهن. فمثل هذه الأوقات، التي لا يكون فيها الحديث عن الفواتير أو الطلبات أو الواجبات فقط، بل حديث قلوب تطمئن وأرواح تأنس، كفيلة بازدهار كل زينب منهكة محترقة.

استدعاء الرجولة

ليس هذا المقال استدعاءً للعداوة بين الرجل والمرأة، ولا دعوة لمباراة في توزيع الأعباء، بل هو استدعاء للرجولة الحقيقية: الرجولة التي تجعل المرأة تشعر أنها ليست بمفردها، الرجولة التي تتمثل في الدعم والسند لا في التنصل والغياب.

لقد بات من الضروري أن نؤكد أن التربية ليست شأنًا نسائيًا محضًا. البيت الذي ينشأ فيه الأبناء وهم يرون أباهم شريكًا حقيقيًا في بناء حياتهم اليومية، يكون بيتًا أقرب إلى التوازن النفسي والاجتماعي.

فالآباء ليسوا مجرد بطاقات ائتمانية تُضخ منها الأموال بينما تتولى الأمهات وحدهن كل أعباء التربية والعناية. ومهمة بناء الإنسان لا تقبل التجزئة. «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»، هكذا وضع النبي صلى الله عليه وسلم ميزان المسؤولية في الأسرة، لا فرق بين رجل وامرأة في ضرورة القيام بالرعاية، كل حسب موقعه وقدرته.

إن القصة ليست قصة زينب ولكنها قصة مجتمع شوه مفهوم الرجولة وكرّس فكرة الأم المضحية التي تحترق حرفيًا من أجل الجميع، مع أن العدل يقتضي أن يبادل الجميع تلك الأم إيثارًا بإيثار وبذلًا ببذل، فالكل للكل.

معادلة ليست زينب هي الرابح الوحيد فيها وإنما كلنا رابحون... رابحون بيوتنا رائقة، موطنًا لراحة الجميع وليست ساحة لاستنزاف أحد.

# صحة نفسية # تربية

«دليل النجاة الفردية»: خارطة طريق للتعافي من إساءات الأهل
دليلك الشامل لحماية طفلك من التحرش
القلق: أزمة صامتة تهدد الصحة النفسية عالميًا

مجتمع